أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
اتَّقُوا اللهَ الَّذِي بَلَّغَكُمْ هَذَا الشَّهْرَ الفَضِيلَ، وَمَنَّ عَلَيْكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الفَضْـلِ الجَلِيلِ، ، وَاعلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ فِقْهَ المَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَهْمَ الحِكْمَةِ مِنَ الأَوَامِرِ الدِّينِيَّةِ، دَلِيلٌ عَلَى تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَآيَةٌ عَلَى الفَضْـلِ وَالخَيْرِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى:،وَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْهُ r أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِلْمُسلِمِ مَوَاسِمَ لِلْخَيْرِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ شَرَفِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ مَا يَسُدُّ بِهِ الخَلَلَ وَيُقَوِّمُ المُعْوَجَّ مِنْ حَيَاتِهِ، وَمِنْ تِلْكَ المَوَاسِمِ هَذَا الشَّهْرُ الفَضِيلُ، وَإِذَا كَانَتْ فَرَائِضُ الإِسْلامِ وَأَحْكَامُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ كُلُّهَا سَبِيلاً لِلتَّزْكِيَةِ وَالإِصْلاحِ، وَسُلَّمًا لِلرُّقِيِّ وَالنَّجَاحِ، فَإِنَّ خُصُوصِيَّةَ الارتِبَاطِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَجَمِيعِ ذَلِكَ شَيْءٌ عَجِيبٌ، فَشَهْرُ الصَّوْمِ مَوْسِمٌ عَظِيمٌ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَمَيْدَانٌ فَسِيحٌ لِلْمُنَافَسَةِ، تَصْـفُو فِيهِ النُّفُوسُ مِنْ دَاخِلِهَا، وَتَقْتَرِبُ فِيهِ القُلُوبُ مِنْ خَالِقِهَا، يَرتَقِي فِيهِ الصَّائِمُ بِقِيَمِهِ الرُّوْحِيَّةِ، وَيُقَوِّمُ صِفَاتِهِ السُّلُوكِيَّةَ، وَيُصَحِّحُ تَصَرُّفَاتِهِ الاجتِمَاعِيَّةَ، وَيُنَمِّي مُكْتَسَبَاتِهِ الفِكْرِيَّةَ، وَهِيَ مَكَاسِبُ لا يَظْفَرُ بِهَا إِلاَّ مَنْ عَايَشَ الصِّيَامَ مُخْلِصًا مُحْسِنًا، وَعَمِلَ عَلَى فَهْمِ مَقَاصِدِهِ مُلْتَزِمًا مُؤْمِنًا، وَطَوَّعَ سُلُوكَهُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ المَقَاصِدِ الجَلِيلَةِ، وَحَرَصَ عَلَى التَّجَاوُبِ مَعَ غَايَاتِهِ النَّبِيلَةِ، وَمِنْ أَجَلِّ مَقَاصِدِ الصَّوْمِ تَحقِيقُ التَّقْوَى فِي وِجْدَانِ المُسلِمِ، بِأَوْسَعِ مَعَانِيهَا وَأَدَقِّ صُوَرِهَا، لِتَكُونَ صِفَةً لَهُ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا، فَالوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ رَمَضَانَ مَدْرَسَةً نَستَلْهِمُ مِنْهَا شِدَّةَ العَزْمِ وَقُوَّةَ الإِرَادَةِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ؛ تَنْظِيمًا لِلسُّلُوكِ، وَتَقْوِيمًا لِلنُّفُوسِ وَتَهْذِيبًا لِلْغَرَائِزِ، وَصَفاءً وَنَقَاءً لِلْبَوَاطِنِ وَالظَّوَاهِرِ، وَتَمَسُّـكًا بِالخَيْرَاتِ وَالفَضَائِلِ، وَتَحَلِّيًا بِالمَحَاسِنِ وَالمَكَارِمِ، حِينَئِذٍ نَخْرُجُ مِنْ رَمَضَانَ بِصَفْحَةٍ مُشْرِقَةٍ بَيضَاءَ نَاصِعَةٍ، مِلْؤُهَا فَضَائِلُ الأَعْمَالِ وَمَحَاسِنُ الأَفْعَالِ وَمَكَارِمُ الخِصَالِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
مِنَ الأَبْعَادِ التَّرْبَوِيَّةِ لِشَعَائِرِ شَهْرِ الصِّيَامِ، وَمَقَاصِدِهَا الَّتِي مِنْ أَجلِهَا شُرِعَتْ فِي الإِسْلامِ، تَرْبِيَةُ الرُّوحِ وَتَنْمِيَتُهَا، وَإِظْهَارُ سُلْطَانِهَا عَلَى النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، فَفِي شَهْرِ الصَّوْمِ تَظْهَرُ قُوَّةُ الرُّوحِ عَلَى الجَسَدِ، حِينَ يَتْرُكُ المُسلِمُ فِرَاشَهُ لِيَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ الوَاحِدِ الأَحَدِ، قَالَ تَعَالَى وَاصِفًا عِبَادَهُ الأَخْيَارَ:،فِي شَهْرِ الصَّوْمِ تَخِفُّ وَطْأَةُ الشَّهَوَاتِ عَلَى النُّفُوسِ المُؤْمِنَةِ، وَتُرفَعُ أَكُفُّ الضَّرَاعَةِ فِي اللَّيلِ وَالنَّهَارِ، فَصَائِمٌ يَسأَلُ اللهَ العَفْوَ عَنْ زَلَّتِهِ، وَآخَرُ يَطْـلُبُ إِلَيْهِ التَّوفِيقَ لِطَاعَتِهِ، وَثَالِثٌ يَستَعِيذُ بِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَرَابِعٌ يَرْجُو مِنْهُ جَمِيلَ مَثُوبَتِهِ، وَخَامِسٌ شَغَلَهُ ذِكْرُهُ عَنْ مَسْـأَلَتِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: فَاغْتَنِمْ أَخِي الصَّائِمَ نَفَحَاتِ هَذَا الشَّهْرِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَهَذَا الشَّهْرُ فُرْصَةٌ لإِحْيَاءِ القَلْبِ وَإِيقَاظِهِ مِنْ غَفْلَتِهِ، وَمُنَاسَبَةٌ لِتَقْوِيَةِ الصِّـلَةِ بِاللهِ، وَقِيَامُ اللَّيلِ مِنَ الوَسَائِلِ المُهِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْـلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّـكُمْ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّـيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ التَّرْبِيَةَ الاجتِمَاعِيَّةَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَتَرَبَّى عَلَيْهِ الصَّائِمُونَ، وَيَكْتَسِبُهُ المُخلِصُونَ القَائِمُونَ، وَأَوَّلُ مَظَاهِرِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَحْدَةُ العَمَلِ، وَوَحْدَةُ مَوَاقِيتِ الإِمْسَاكِ وَالشُّرْبِ وَالأَكْلِ، فَفِي النَّهَارِ إِمْسَاكٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ عَنِ المُفَطِّرَاتِ، وَبِاللَّيلِ اجتِمَاعٌ عَلَى مَا أَحَلَّ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ،إِنَّ هَذِهِ الوَحْدَةَ فِي التَّرْكِ وَالإِتْيَانِ، أَرْضِيَّةٌ صُلْبَةٌ لِلتَّرْبِيَةِ الاجتِمَاعِيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى الوَحْدَةِ وَالإِحْسَانِ، المَصُونَةِ بِسِيَاجِ البِرِّ وَالإِيْمَانِ، ثُمَّ تَتَوَاتَرُ الأَوَامِرُ الشَّرْعِيَّةُ، وَتَتَوَالَى لِلصَّائِمِ التَّوْجِيهَاتُ النَّبَوِيَّةُ، لِتَغْرِسَ فِيهِ الإِحْسَاسَ بِالمَسْؤُولِيَّةِ الاجتِمَاعِيَّةِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ rأَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ))، وَالجُودُ - عِبَادَ اللهِ - أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَأَشْكَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، أَلاَ وَإِنَّ مِنْ أَبْرَزِ خِصَالِ الكَرَمِ وَأَنْبَلِ أَنْوَاعِ الجُودِ الإِحْسَانَ إِلَى العِبَادِ وَإِيْصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ مِنْ إِطْعَامِ جَائِعٍ وَإِعَانَةِ مُحتَاجٍ، فَرَمَضَانُ فُرْصَةٌ لِتَرْبِيَةِ الرَّحْمَةِ فِي النُّفُوسِ، حَتَّى تُعَايِشَ الجَسَدَ الوَاحِدَ الَّذِي
آخر الفيسبوك
إنستغرام